خرج النبي صلى الله عليه وسلم يريد قتال الروم في غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها، وكان ذلك في وقت شديد الحر، بعيد السفر فتخلّف عن الذهاب مع النبي صلى الله عليه وسلم عددٌ من الناس، ومن بينهم كعب بن مالك واثنين من كبار الصحابة ممن شهد بدراً (مُرَارة بن الربيع .. وهلال بن أمية) فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الغزوة جاءه من تخلّف يعتذر فمن اعتذر قَبِل منه عُذْره ووَكَل سريرته إلى الله. ثم جاءه كعب بن مالك فلما سلم عليه .. نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم .. ثم تبسَّم تبسُّم المغضب .. فقال له صلى الله عليه وسلم: ما خلَّفك ؟.. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ يعني اشتريت فرساً .. قال : بلى .. قال : فما خلَّفك ؟! فقال كعب : يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا .. لرأيتُ أني أخرجُ من سخطه بعُذْر .. ولقد أُعطيت جَدَلاً (أي عندي حجة قوية أستطيع أن أُقنع من أخاطبه) ولكني والله لقد علمت أني إن حدثتُك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به علي ليوشكن الله أن يُسَخِّطك علي .. ولئن حدثتك حديثَ صدقٍ تجِدُ عليَّ فيه (يعني: تغضب بسببه مني) إني لأرجو فيه عفوَ الله عني .. يا رسول الله، والله ما كان لي من عذر .. والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .. ثم سكت كعب .. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه .. وقال : أما هذا فقد صدقكم الحديث .. فقُم حتى يقضي الله فيك .. . ثم مضى كعب رضي الله عنه .. يسير حزيناً كسير النفس، وقعد في بيته .. فلم يمضِ وقت حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلام كعب وصاحبيه .. قال كعب : فاجتنبَنَا الناس .. وتغيَّروا لنا، فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد .. وتنكَّر لنا الناس حتى ما هم بالذين نعرف .. وتنكَّرت لنا الحيطان .. حتى ما هي بالحيطان التي نعرف .. وتنكرت لنا الأرض .. حتى ما هي بالأرض التي نعرف .. فأما صاحباي فجلسا في بيوتهما يبكيان .. جعلا يبكيان الليل والنهار .. ولا يُطْلِعان رؤوسهما .. ويتعبدان كأنهما الرهبان .. وأما أنا فكنت أشَبَّ القوم وأجلدَهم .. فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين .. وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد .. وآتي المسجد فأدخل .. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُسلِّم عليه .. فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام عليّ أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه .. فأُسَارقه النظر .. فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إلي .. وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني .. قال كعب: فلما طال عليَّ البلاء .. ذهبتُ إلى أبي قتادة .. وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ .. فإذا هو في حائط بستانه .. فتسَوَّرت الجدار عليه ودخلت .. فسلمتُ عليه .. فوالله ما رد عليّ السلام .. فقلت : أَنْشُدك الله يا أبا قتادة .. أَتَعْلم أني أحبُّ الله ورسوله ؟ فسكتْ .. فقلت : يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟ فسكتْ .. فقلت : أَنْشُدُك الله يا أبا قتادة .. أَتَعْلَمُ أني أُحِبُّ الله ورسوله ؟ فقال : الله ورسوله أعلم .. سمع كعبٌ هذا الجواب من ابن عمه وأحبِّ الناس إليه .. لا يدري أهو مؤمن أم لا ؟ فلم يستطع أن يتجلَّد لِمَا سَمِعَه .. وفاضت عيناه بالدموع وفي الليلة الخمسين .. نزلت توبتهم على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلث الليل .. فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر .. آذن الناس بتوبة الله عليهم .. فانطلق الناس يبشرونهم .. قال كعب : وكنت قد صليت الفجر على سطح بيتٍ من بيوتنا .. فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى .. قد ضاقت عليَّ نفسي .. وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت إذ سمعتُ صوت صارخ على جبل سَلْع بأعلى صوته يقول : ياااااا كعب بن مالك ! .. أبشر .. فخررتُ ساجداً .. وعرفت أن قد جاء فرجٌ من الله .. وأقبل إليَّ رجل على فرس .. والآخر صاح من فوق جبل .. وكان الصوتُ أسرع من الفرس .. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما بِبُشْراه .. والله ما أملك غيرهما .. واستعرت ثوبين .. فلسبتهما .. وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة .. حتى دخلت المسجد .. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ بين أصحابه .. فلما رأوني والله ما قام منهم إليَّ إلا طلحة بن عبيد الله .. قام فاعتنقني وهنأني .. ثم رجع إلى مجلسه .. فوالله ما أنساها لطلحة فمشيت حتى وقفتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمتُ عليه .. وهو يبرق وجهه من السرور .. وكان إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر .. فلما رآني قال : أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك .. قلت : أَمِنْ عندك يا رسول الله .. أم من عند الله ؟ قال : لا .. بل من عند الله .. ثم تلا الآيات .. فجلست بين يديه .. فقلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله .. فقال : أمْسِكْ عليكَ بعضَ مالِك .. فهو خيرٌ لك .. فقلت : يا رسول الله ! إن الله إنما نجاني بالصدق .. وإن من توبتي ألا أُحَدِّث إلا صدقاً ما بقيت .. نعم .. تاب الله على كعب وصاحبيه .. وأنزل في ذلك قرءاناً يتلى .. فقال عز وجل : [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَعَلَى الثَّلاثَةِ لَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ] والشاهد من هذه القصة .. أن طلحة رضي الله عنه لما رأى كعباً قام إليه واعتنقه وهنأه .. زادت محبة كعب له .. حتى كان يقول بعد موت طلحة .. وهو يحكي القصة بعدها بسنين : فوالله لا أنساها لطلحة .. وماذا فعل طلحة حتى يأسر قلب كعب ؟! فعلَ مهارةً رائدةً .. اهتمَّ به .. شاركه فرحته .. فصار له عنده حُظْوة .. الاهتمام بالناس ومشاركتهم في مشاعرهم يأسر قلوبهم .. من كتاب (استمتع بحياتك) للشيخ محمد العريفي
2014-04-18 16:04:09
خرج النبي
sign in to comment
Be the first to comment